دكتورة أمل علمي بورشك: قراءة نقدية لرواية “طواحين الهوا” للمحام والروائي والسيناريست “سامر أبو شندي”
دكتورة أمل علمي بورشك
من إيماني بأن قراءة كتاب يرفعك درجة وإذا قرأت مئة كتاب فإنك ترتقي إلى أعلى التلة ، بدأت بقراءة الرواية المذكورة أعلاه في 27/1/2022م في إسطنبول و تذوقت فيها معنى السفر و أنهيت القراءة و بدأت في كتابة انطباعي عنها ولكن الظروف والصحة عاكستاني فاستسلمت ، حتى استطعت اليوم في 27/11/2022م أن أكمل كتابة نقدي وطباعة مسوداتي ، شاكرة الكاتب الروائي المبدع ” سامر أبو شندي ” على امتلاكه لهذه العبقرية المتقدة والمغلفة بخلق نبيل ، وبكل حيادية أكتب ما انطبع في نفسي عن هذه الرواية القيمة و المصدرة للمعرفة النوعية ، فهي تاريخية و سياسية و عابرة للحدود الجغرافية و متوغلة في أعماق النفس البشرية خاصة لدى الشباب بادئ من صفحة الغلاف .
غلاف الرواية :-
ad
تظهر صورة لرأس رجل يضع ملاءة بيضاء متهدلة على رأسه ، و وجهه الأسود بلا ملامح واضحة ، و يكتنفه الغموض و محاط بخلفية بيضاء و سوداء تشير إلى التناقض الفكري المحيط به .
عادة ما يستخدم غطاء الراس الأبيض والسميك للحماية من عوامل المناخ والطبيعة القاسية و لكن هنا يرمز إلى تغليف العقل الذي يحمل فكرا ما باللون الأبيض و لحمايته بقوة .
لذا يطغى المعنى المغاير ” لما وظف الغطاء من أجله في الحال الطبيعي ” و تغطيته جيدا لدرجة تمنع رؤية المستقبل بوضوح ، و لسوداوية ما يحمله البعض في رؤوسهم من أفكار قد تبدأ بتطلعات نيرة في بداية حياتهم بالفطرة ولكنها تنجذب لتوجهات مغايرة مع رتم الحياة المتسارع والرغبة الجامحة في تحقيق المزيد من حب السيطرة المقنع على ما يحيط بهم ، و من ثم تعكس خشونة وسماكة نوع القماش على الرأس إلى ارتباط البطل بمكانة الشخص و علاقته بالسلطة و أحيانا بوظيفته التي سيتلمسها القارئ أثناء قراءته للرواية بتمعن .
تبين أن مسار المعتقدات و الأفكار تتطور مع تغير الأحداث في الرواية تاريخيا ، لتظهر الفوارق على فكر الراوي ” الأنا ” أثناء سرده ، و تتجلى آثار فكره الموجه بقوة داخلية و مؤثرات خارجية على علامات انتمائه الاجتماعي للمكان الذي عاش فيه، و يعبر بهويته المتشكلة بسلاسة لتسرد تاريخ البطل و تظهر انتمائه لمعتقداته وفكره الخاص بقوة أكثر من بداية الرواية ،
المقدمة :-
يبدأ الكاتب المميز و المبدع ” سامر أبو شندي ” بإهداء راق يربط بين أجيال ثلاث الوالد والوالدة والزوجة وأبنائه وهذا يمثل حلقة قيمية متواترة تدل على مدى اتزانه وعرفانه بالجميل للآخرين ، و لمن تعايش معهم ، وتعكس صورة طيبة عن حفظ الجميل والتقدير لمن كان لهم فضلا في حياته الخاصة .
الشكر : و توسع الكاتب في أصول الشكر والعرفان إلى أساتذته و زملائه في العطاء وهم سبعة أسماء لها وقعها في نفسه و باختصار شديد وسم أسماءهم في مقدمة الرواية لقدرته الفذة على بناء شبكة متزنة من المعارف التي دفعته إلى تحكيم قناعاته الشخصية في الرواية .
الزمان :
يبدأ الراوي بتناول خط زمني متمدد من عام 1957م ، بنى من خلاله مضمار تحرك حياة البطل الأفقي لرسم أحداث الرواية في فترات محددة من حياته اليومية ، ومن ثم بنى بعدا عموديا آخر ينتهي في العصر الحديث …. فجمع بين أكثر من عقد تاريخي لبناء روايته والتي انتهت بعد انقلاب مذهل في الأحداث التاريخية المصاحبة و التي لا علاقة لها بالفكر المبتدأ .
من يطلع على سيرة الكاتب وحبه للسفر وتمكنه من أكثر من لغة و امتلاكه فكرا خاصا اكتسبه من تجاربه المتنوعة ، حرص على أن يلونه بالحرية البناءة و يرفع راية إحقاق الحق ، و حاول جاهدا عبر روايته أن يكتب لكل الأعمار والأجيال و بصدق ملموس ومهذب .
” مع أن بعض كتاب الرواية يميلون إلى الدخول في زقاق و تشعبات نفس الانسان ليتمردوا على المألوف و ليكسبوا ترويجا لما كتبوا ” ولكن الكاتب المميز و المبدع ” سامر أبو شندي ” حرص أثناء كتابته الرواية مثل العبقري طه حسين أن يسرد الأدب وينطق الفكر وينظم الكلمات و يدع وقع بريق حرفها لإعمال فكر القارئ ، فتجده قريبا في سرد الأحداث من الواقع و يصف بدقة حال الشباب و تلهفهم على تحقيق ذاتهم … و لا يتغافل كأديب عن دوره في نشر الثقافة عبر سلسلة من الأحداث المشوقة بعد سرد لا يخلو من براءة البدايات و تفجر في النهايات .
لقد تحرك الكاتب في روايته القريبة من سرد “السير الذاتية ” بخيال ملهم و مستمد من واقع التجربة العربية في العراق و سوريا و مصر ليترك لخياله العنان دون أن ينسى جذور واقعه العربي الأصيل فيتحرك شرقا و غربا فتتوسع جغرافيا المكان بين بريطانيا و كندا و أفغانستان و تركيا مقتربا بالوصف للمكان من أدب الرحلات ، من خلال أسلوبه الشيق والممتع و المفعم بالإثارة مختصرا فيه الكثير من الإسهاب والإطالة ، كاتبا العبر و موظفا الرمزية الملهمة ، ليرفد القارئ العربي بنوع فريد و مميز من الخبرة الرجولية، و التي لا تخلو من المغامرة والخوف والقلق والدخول في عالم الحركة المتسارع و تغير الفكر وتبعثر الأحلام و انبثاق شخصيات مغايرة لما كانت عليه في بداية عمر الطلائع .
فهنا تقرأ تاريخ فكر الشباب و الهروب للبحث عن مكان للعيش فيه و تأبى العواطف والأحاسيس أن لا تفارق البطل في روايته فتذكرك بأن الانسان كفرد له احتياجات خاصة تتقاطع مع متطلبات العادات والرتب الوظيفية الوضعية فتتواجه الطموحات في صراع مع المعيقات وتنهار بعض الأحلام ، ولكن الحياة تستمر لمن لديهم إرادة فولاذية و بنائين و قراء نهمين و ذو مواهب متعددة ، و لكن هناك دائما مكانا للشر يلتف من حول أبطال الرواية وتضطرهم لمعانقة بعض الأمور غير المقبولة اجتماعية وأخلاقيا فقط من أجل تحقيق ذاتهم ماليا وشخصيا .
فيدخلنا الكاتب المبدع سامر أبو شندي عالم الرق الأبيض ومقدار التوغل فيه وحدوث صراع آخر من جديد مع شخوص الرواية بعيدا عن عالم السياسة وصناعة التاريخ الخيالي و غير الواقعي للعقل والمنطق في تحقيق مكاسب لاإنسانية معتمدا على روح الشباب النقية .
و أكثر ما يميز هذه الرواية السياسية و التاريخية والخيالية في آن واحد هو أن أحداث الرواية تعكس مدى قدرة الكاتب على تنظيم فكر المتلقي بطريقة جريئة و منمقة لا تخلو من الصراع حول القيم النبيلة و كيفية التعامل مع الحياة بكل واقعية ، فكما يشير إلى المصاعب في الرواية يجد أسلوبا خاصا به يرشدك إلى حلول مغلفة بقوة الشخصية والتحدي و التسلح بالعلم والتدريب .
خلو الرواية من الأخطاء اللغوية والتعثر بالانتقال بين الفصل والأخر ، يدل على سعة معرفية و اطلاع لدى الكاتب ، كما أن تحليه بالصبر و التأني مكنه من لغة محكمة للسرد الشيق و المتخمة بحقائق مقنعة علميا و قانونيا و إنسانيا و تطورا فكريا متصاعد البناء في أدب الرواية الراقي .
للكاتب بصمة خاصة في عبقرية سرد السيرة و التأريخ دون خلط الأمور ، فهو يتقن كفنان رسم كل صفحة من صفحات السيرة الذاتية التي لا تخلو من الألوان و الحركة ، ليجذبك بقوة تشدك لإكمال الرواية ، لتمتعه بموهبة امتلاك أساليب محببة لا تخلو من العاطفة الجياشة والصدق والشفافية ، فيدعك تحلق في خيال روايته ، تفرح لفرح الشخوص و تتألم لتألم أحدهم إن كان شخصا رئيسيا أو ثانويا ، فالاتزان موجود بين كل حدث و آخر .
تقرأ خيالا و لكنها تحاكي واقعا معاشا لشاب خلوق يتأمل ما بين يديه و يطمح للمثالية والعيش بطريقة أقرب للاستقامة ، و لكن تتقاطع مجريات الحياة الروتينية العادية له مع حياة قيادات سياسية و هنا تتجلى حبكة الرواية و يبدأ الصراع بين الشر والخير ، لتحقيق أهداف الشاب و الخسائر النفسية والمعنوية التي يتكبدها خلال مسيرته فيشوقك لقلب الصفحات و متابعة القراءة بلهفة و شوق .
لقد حاول الكاتب جاهدا في روايته إحقاق الحق و إنارة دروب الشباب لما يدور في أعماق نفوسهم البشرية و ما يتعرضون له من ضغوط حياتية مختلفة .
يتسم قلم الكاتب بمرونة فكرية تجمع بين احتياجات الانسان العادي و المستويات الفكرية الأعلى و الإجابة عن تساؤلات القاريء الذهنية من النواحي القانونية .
كما خلت الرواية من التكرار الممل والحشو الزائد أو الفراغات الأدبية غير المفهومة .
كما استهلت الرواية بقوة في البداية تمكن الكاتب المبدع من إزاحة الستار عن كل غموض يكتنف حياة الشباب الفكرية ، بل وضح بكل تأني و روية طريقة نمو فكر الشاب وكيف يرغب في تحقيق ذاته مقلدا لفكر القيادات من حوله وماهي المعاناة النفسية التي قد يقعون بها بين الحين والأخر .
فنجحت الرواية في تسليط الضوء على كثير من الرسائل الاجتماعية البناءة الخاصة بالشباب مثل الصداقة و انتقاء الزوجة الداعمة و المتفهمة وتأثير الحب و الإعجاب و الوفاء لمواجهة تغير أحداث التاريخ و أثره سلبا أو إيجابا على الإنسان و على مسار السياسة ، و في لحظات و برقة مبهرة و ضع كاتب الرواية المبدع سامر أبو شندي يده على مكمن الجرح الإنساني بكل خفة أدبية ، موظفا حروف روايته المتألقة في وصف أي حدث أختاره ناشدا الاتزان النفسي للفرد متطلعا لإصلاح حال المجتمع بأكمله من خلال الاهتمام بفكر قياداته الملهمة .
هنيئا للمكتبة العربية برفدها بهذا النوع من الأدب الراقي الذي لازال يكتب بعقلانية صدق الحدث ، و هنيئا للكاتب الروائي سامر أبو شندي على هذه الملكة الإبداعية من كتابة الرواية الثرية بالفكر والجغرافيا المتسعة و امتداد زمني لعقود ، فقد أتقنت نثر حروف روايتك و نجحت في وضع قلمك على مكمن جرح الفرد العربي ، وتنقلت بين الحقب الزمنية التي مر بها البطل بكل رشاقة وسهولة ، لتسطر رسالة المستقبل على المستوى المحلي و الإقليمي و العالمي ، لتؤكد عن طريق الشخصيات التي تخيلتها أن هناك فرقا بين الحرية الفكرية الطليقة والمستعبدة ، و تمكنت من تشخيص دقيق لبعض الآفات الاجتماعية مثل الطبقية و الجهل و السوداوية و الفرقة و أضأت إيجابية تعاضد الأسرة والمجتمع لإكمال المسيرة العلمية عبر صورك الأدبية المنوعة و الحوار المتقن و الرمزية التي قد يفهمها كل قاريء حسب خلفيته الثقافية وحسب الأحداث الرئيسة والثانوية في الفقرات التي لم تخل أحيانا من وصف تفصيلي بتمهل واسترسال عميق في سردها .
وختمت الرواية بحكمة غارسا الأمل و محكما الحس الإنساني للعدالة متأملا الإصلاح .
اقتباس من الرواية ” إن ستار حاول الانتحار في محبسه أكثر من مرة ، لكنه اليوم يقرأ كثيرا و لديه رسالة في الحياة و سوف تنقضي العشر سنوات ، ومن الممكن لظروف الحبس الإنسانية أن تصلحه بل و أن تزيده سنوات الحبس العشرة ثقافة و حضارة .
وتضيف بخاتمة ثقافية …
” عدت إلى لندن و إلى روتين العمل بالجامعة ، لكن بشهوة كبيرة لإكمال كتابة مذكراتي .
أنا أحتفل مع نفسي بإنهاء تلك المذكرات .
سعادة غامرة تنتابني عندما كنت أتذكر أي جزء منها .
بارك الله فيك و فيما نشرته عبر هذه الرواية التي أوصي باقتنائها في المؤسسات التعليمية و خاصة المخيمات الشبابية لتميزها ببصمة الرجولة وصناعة الإنسان القوي المتحلي بحب وطنه و ناقلا لإرث عروبته متسلحا بالعلم و المعرفة ، مع تمنياتي لك بالتوفيق ، و انتظار المزيد من مثل هذه الإصدارات الغنية بمعناها العلمي والمعرفي و الثقافي